ليلة القدر وسؤال العفو والعافية

إن العافية في الدنيا والآخرة، من أعظم ما يطلبه المؤمن ويرجوه، ولأجل ذلك أرشدنا الحق إلى سؤالهما، وندبنا إلى أن نتحلى بخلق العفو لنكون أهلا لعفو الله، ولرحمته بنا فقال سبحانه:

“وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” [النور: 22]. قال ابن كثير في سبب نزول الآية: ” هذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، كما تقدم في الحديث. فلما أنزل الله براءةَ أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه -شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد وَلَق وَلْقَة تاب الله عليه منها، وضُرب الحد عليها. وكان الصديق، رضي الله عنه، معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: ” أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ” أي: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق (رضي الله عنه وعن بنته)“.

وقد اقتدى الصديق رضي الله عنه في ذلك بيعقوب ويوسف عليهم السلام في عفوهما عن إخوة يوسف.

وعلمنا النبي عليه السلام أن العفو ليس بذل، بل هو عز وكرامة، روى الترمذي عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ رَجُلًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ “.

وأمرنا الحق سبحانه أن نثبت على الدين وأن نبذل ما في وسعنا لنصرته لنكون أهلا لعفوه ورحمته فقال: “إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورً” (النساء: 98، 99)

ومن أهم الرسائل التي تتضمنها ليلة القدر، الدعاء وسؤال الله تعالى العفو و العافية والتودد إليه سبحانه مع الدعاء بالعفو عن الناس كما في قصة أبي بكر.

إذا كان الدعاء هو العبادة، فإن من أعظم الأدعية القرآنية والتي حث عليها النبي عليه السلام سؤال العفو والعافية والمعافاة. وهذا هو ديدن المؤمن وهو أصل كل خير وبركة .

ففي القرآن الكريم قال الله تعالى “رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” (البقرة: 286)

قال بن كثير رحمه الله في الآية : وقوله “واعف عنا” أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا “واغفر لنا” أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة …ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه, وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم, وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره“.

وفي السنة النبوية: روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” قَالَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير”. قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قَالَ نَعَمْ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قَالَ نَعَمْ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قَالَ نَعَمْ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قَالَ نَعَمْ.

سؤال العفو و العافية ليلة القدر:

روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ قُولِي (اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي) .

الدعاء للميت بالعفو والعافية :

روى مسلم عن عَوْف بْن مَالِكٍ يأن رسول الله صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَالَ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ .

وفي سنن الترمذي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – : أَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال : “الدُّعَاءُ بين الأذَانِ والإقَامَةِ لا يُرَدُّ”. زاد في رواية قال : “فَمَاذَا نَقولُ يا رسولَ الله ؟ قال : سَلُوا الله العَافِيةَ في الدنيا والآخرة” أخرجه الترمذي .

وفي سنن الترمذي أن أبا بكر – رضي الله عنه – :« قام على المنبر ثم بكى ، فقال : قام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عام أولَ على المنبر، ثم بكى ، فقال : سَلُوا الله العفْوَ والعافيةَ ، فإِن أَحدا لم يُعطَ بعد اليقين خيرا من العافية».

وعن أَبي الفضل العباس بن عبد المطلب – رضي الله عنه – قَالَ : قُلْتُ :

يَا رسول الله عَلِّمْني شَيْئاً أسْألُهُ الله تَعَالَى، قَالَ : سَلوا الله العَافِيَةَ، فَمَكَثْتُ أَيَّاماً، ثُمَّ جِئْتُ فَقُلتُ : يَا رسولَ الله عَلِّمْنِي شَيْئاً أسْألُهُ الله تَعَالَى ، قَالَ لي : يَا عَبَّاسُ ، يَا عَمَّ رسول اللهِ ، سَلُوا الله العَافِيَةَ في الدُّنيَا والآخِرَةِ، رواه الترمذي ، وقال : ( حديث حسن صحيح) .

وروى أبو داوود عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – : ” أَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لم يَكُن يَدَعُ هؤلاءِ الكلِمَاتِ حينَ يُمسي وحينَ يُصبِحُ : اللَّهمَّ إني أسألُكَ العَافِيَةَ في الدنيا والآخِرةِ ، اللَّهمَّ إني أَسألُكَ العَفو والعَافِيَةَ في دِيني ودُنيايَ ، وأهلي ومَالي، اللَّهمَّ استُر عَوْرَاتي ، وآمِنْ رَوْعَاتي، اللَّهمَّ احفظني من بَينِ يَدَيَّ ومِن خَلْفي ، وَعن يَميني ، وعن شِمالي ، ومِن فَوقي، وأعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحتي” قال وكيعٌ : يعني الخَسْفَ . أخرجه أبو داود.

الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى