رمضان وترشيد التدين

أيها الإخوة والأخوات

أظلنا شهر رمضان المبارك، و حل الزائر الكريم فهو بيننا، فلا بد أن نتواصى بإكرامه وحسن استقباله، فانه شاهد لنا أو علينا، شافع فينا أو شاك بنا .

لماذا لا نفعل في الشهور الأخرى ما نفعل في هذا الشهر ؟ ولماذا لا نتحدث عن قرب حلول شهر من شهور السنة بينما نتحدث عن قرب حلول شهر رمضان و نعد الأيام التي بيننا و بينه؟

إن السبب معلوم وهو أن شهر رمضان شهر مفضل، فهو أفضل شهور السنة و فيه ليلة هي أفضل الليالي ، انه موسم المغفرة والرحمة والمضاعفة في الحسنات ، فكيف لا ننتبه إلى قرب وصوله وكيف لا نعد أيامه يوما بيوم حتى تنتهي ؟

وقد أدركنا هذا الشهر الكريم وترشيد التدين أولوية من أولوياتنا، فلا نجد أفضل منه لنراجع هذه الأولوية و نعيد إليها الاعتبار، ونطبق الوسائل العملية التي تحقق هذا الرشد .

وان مما يلفت النظر إن آيات الصيام في سورة البقرة تتوسطها آية كريمة يقول الله عز وجل فيها : « وإذا سالك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي و ليومنوا بي لعلهم يرشدون «.

فجعل الله سبحانه و تعالى الاستجابة له ولأمره طريقا إلى الرشد، فالرشد كلمة جامعة لمقاصد الصيام وأهدافه مثل كلمة التقوى الواردة في أول آية من آيات الصيام : « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون «.

أن ورود هذه الكلمة، (يرشدون)، في ثنايا آيات الصيام يؤكد العلاقة بين صوم رمضان ونيل الدرجات العلى في الرشد

الرشد الذي يرادف النضج والسداد والصواب ويقابل الغي والجهالة والانحراف، قال الله عز وجل : « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. «

إن فضائل رمضان كثيرة فهو شهر التوبة والإنابة، وهو  شهر التقوى و المغفرة ، وهو شهر العبادة والصيام ، وهو  شهر القرآن والقيام ، وهو شهر الإنفاق والمواساة، وهو شهر الصبر والشكر، وهو شهر الأفراح والانتصارات، وكل تلك الفضائل تنتظر ذلك المسلم الحريص على الخير، وإلا فإنها لا تأتي إلى المسلم بل هو الذي يأتي إليها وينافس غيره عليها ولذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين، ونادى مناد يا باغي الخير اقبل ، ويا باغي الشر اقصر. «

هذه الفضائل تحتاج إلى إنسان يعرف قدرها ومكانها ويلتمس مزيدا من الرشد في هذا الشهر الكريم فيستجيب لربه عندما يأمره بالصيام ويأمره بالدعاء ويبتغي بهذا الصوم و بغيره من الفرائض والعبادات الرشد في شأنه كله.

رمضان محراب الاستغفار وربيع الحسنات وموسم الآخرة بلا منازع ، فيه تزهر الأخلاق النبيلة والصفات الحميدة ، وهو الجسر الذي يعبر بالصائمين إلى جنة عرضها السماوات والأرض ففي الحديث أن في الجنة بابا يقال له باب الريان يدخل منه الصائمون ولا يدخل منه غيرهم.

إن طموح كل مسلم في رمضان أن يكون من المتقين وأن يكون من الراشدين يعيش الرشد في حياته ويبذله للآخرين.

وإذا كان الترشيد هو حمل النفس على الأمر الراشد أو حمل الغير عليه فإن ذلك لا ينحصر في مجال دون أخر، بل يشمل مواقف الحياة كلها، فالترشيد يشمل الأفكار والأقوال والأفعال.

ولا يزال الرجل يرشد ويتحرى الرشد حتى يصير راشدا و يشتق له اسم من الأفعال التي غلبت عليه فيقال راشد أو رشيد.

والرشيد اسم من أسماء الله الحسنى، فأفعاله وأحكامه عز وجل كلها رشد وحكمة ليس فيها ظلم أو عبث والإنسان يستلهم هذه الصفة الإلهية ويقتبس منها ويقتدي بها ويسألها من الله عز وجل ، فإن الرشد نعمة من الله وهبة منه ، قال الله تعالى : « و لكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون، فضلا من الله ونعمة، والله عليم حكيم «سورة الحجرات

إن الله تعالى لما فرض علينا صيام رمضان اخبرنا أنها أيام معدودات فهي لا تحتمل التهاون والتأخير وتقتضي المسارعة والمبادرة والمسابقة والمنافسة حتى يغتنم الصائم أكبر قدر من منافع الصوم وفوائده،

وإنها لفرصة سنوية ليعرض المسلم عاداته على الإسلام ويتفحصها مثلما يفعل الأستاذ عندما يتفحص إجابة الطالب و يدقق في كل سطر و كلمة و العقبة التي ينبغي اقتحامها في هذا الشهر هو ذلك الميل إلى إبقاء ما كان على ما كان، فإذا كان الرشد درجات بعضها فوق بعض فإن الراشد بحاجة إلى مزيد من الرشد ، فكيف بمن به سفه و جهالة و كفر و فسوق و عصيان .

إننا بحاجة إلى الزيادة و التقدم و من لم يكن في زيادة كان في نقصان، ومن لم يكن في تقدم فهو في تأخر.

وإذا كنا نريد أن يكون رمضان في حياتنا أفضل من الذي قبله فعلينا أن نراجع عاداتنا على ضوء الإسلام و نغتنم رمضان للقيام بذلك وأن للعادات من القوة ما يجعلها تتشبت إلا أن تصادف عزيمة قوية تحمل النفس على سلوك طريق الرشد.

إن تحري الرشد في الأفكار والمعتقدات وفي الأقوال والتصرفات هو الحافز الدائم للتغيير، ورمضان فرصة التغيير على مستوى العالم الذهني الداخلي وعلى مستوى العالم الواقعي الخارجي .

فعلينا إن نتساءل عند كل فعل نفعله هل نفعله برشد أم لا ؟

أين الرشد في صلاتنا و صيامنا و زكاتنا؟ أين الرشد في أكلنا وشربنا ونومنا؟ أين الرشد في تصرفاتنا؟ أين الرشد في علاقاتنا ومعاملاتنا؟ هل نحن راشدون فيما نختار مشاهدته من برامج التلفاز؟ هل نحن راشدون في ترتيب الأولويات خلال الشهر الكريم؟ هل نحن راشدون في طريقة إنفاق الوقت و المال؟

إن رمضان بأجوائه وأنفاسه فرصة ليُظهر المسلم ما عنده من رشد، إذا سابه احد أو قاتله قال إني صائم، وإذا دعاه أحد  ليشارك في إثم قال إني صائم، وإذا حدثه نفسه بشيء مما لا يليق بشهر رمضان قال إني صائم.

هذا شعاره وحده وشعاره مع الناس لأن النبي صلى الله عليه و سلم يقول :” من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه «

ويقول أيضا :”إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم”

هذا هو الرشد الذي يحجز صاحبه عن الجهل والسفه والإثم

هذا هو الرشد الذي يعلق همة الصائم بمعالي الأمور ويصرفه عن سفا سفها

هذا هو الرشد الذي يجعل صومه صوم الخاصة يقتدي فيه بالأنبياء والصالحين و سلف الأمة الصالح.

هذا هو الرشد الذي يرفع المسلم فوق أهل زمانه إذا كانوا غافلين أو كانوا جاهلين

هذا هو الرشد الذي يدعو إلى الحذر من المفطرات المعنوية التي تحبط الأجر وتضيع الثواب

أنت راشد أيها المسلم بما تفعل في هذا الشهر وبما تترك فيه

أنت راشد أيها المسلم عندما تتحمل المسؤولية فيما تفعل و تعد لكل عمل جوابه

آنت راشد عندما تراقب نفسك و تستغني عن المراقبة الخارجية و لا تحتاج  إلى حجر آو وصاية

أن كثيرا من الناس هم راشدون ظاهرا فقط و لكنهم بمقياس الشرع لم يرشدوا بعد .

و كل من يظلم نفسه بالكفر والفسوق والعصيان فليس من الراشدين، وهل رأيت رجلا راشدا عاقلا يورد نفسه موارد الهلاك

ليس من الرشد أن يصوم الإنسان عن الآكل و الشرب ولا يصوم عن بقية المفطرات

ليس من الرشد أن يجتنب ذنوب العلن ويرتكب ذنوب السر.

ليس من الرشد أن يقتل الوقت و يضيع العمر فيما لا ينفع.

ليس من الرشد أن تكثر تناقضاته في هذا الشهر ويخلط بين الشيء ونقيضه

وفي زمن يبتعد الناس عن الرشد ويتبعون أهواءهم، علينا أن نستحضر ما قاله نبي كريم هو لوط عليه السلام عندما قال لقومه وقد اجتمعوا على بابه يريدون منه ضيوفه ليرتكبوا الفاحشة ومن قبل كانوا يعملون السيئات ، فإنه قال « أليس منكم رجل رشيد «

ونحن بحاجة إلى هذه الصرخة : ” أليس منكم رجل رشيد”، فالرجل الرشيد هو العملة النادرة في كل زمان ، لأنه يلجم شهوته بلجام العقل والشرع و يقرأ عواقب الأمور في بداياتها ويقدم الآجلة الباقية على العاجلة الفانية و يؤثر ما عند الله على ما عند الناس ولذلك فهو يدع طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى ويصوم رمضان إيمانا و احتسابا.

وفي الختام :

فإن الترشيد كلمة متداولة في بعض الاشهارات ولكنها محصورة في معاني ضيقة لا تخرج عن بعض الحاجات المادية مثل الماء و الكهرباء، وحبذا لو تجاوزنا هذا المعنى الضيق لنرى الترشيد  في مجاله الواسع وهذا هو المقصود بترشيد التدين عندما يكون التدين أسلوبا في الحياة.

الدكتور عز الدين توفيق

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى